: آخر تحديث

نتذكّره ضاحكاً ونبكيه

69
62
51
مواضيع ذات صلة

يعود الفضل في اكتشافي لـ"جبور الدويهي" إلى الكاتب العراقي صامويل شمعون حين نصحني بقراءة روايته "مطر حزيران" بحماس لن أنساه، "هذا شاب لبناني مش معروف بس ممتاز"، قرأت الرواية، وفي رأسي انطبعت صورة "شاب لبناني" بدأ مسيرته الأدبية بنص مذهل، ولكن الحظ لم يحالفه لينال به البوكر.

أيامها كنت أحب بهاء طاهر جداً، وانحزت له قبل قراءة روايته الفائزة، لكن "مطر حزيران" قلبت الكفة لصالح "الشاب اللبناني"، وظلّ انطباعي ذاك على حاله تجاه أدب الدويهي طيلة 13 سنة، قرأت فيها كل أعماله وآخرها "سم في الهواء" التي صدرت قبيل وفاته بقليل.

سافرت بعدها بفترة إلى الجزائر، وكانت الصدفة أن بُرمجت في مهرجان دولي للأدب والكُتّاب الشباب مع جبور الدويهي، لقاء من أغرب اللقاءات على الإطلاق، فقد ظننته جزائرياً، وهو يقف مع كوكبة منهم قدموا من باريس.

قلت له: أعرفهم جميعهم إلا أنت، عرّفني بنفسه وأضاف: أنا من لبنان، كانت تلك صدمتي الإيجابية الثانية، فالرّجل لم يكن شاباً مبتدئاً كما تخيلته، إنّه ستيني، مزدوج اللغة، أنيق جداً، أو هكذا رأيته وانطبعت صورته في رأسي، سريع البديهة، أمّا تواضعه فقلة من يشبهونه في عالم النخبة والأدب، لأن أسوأ ما يمكن أن تصطدم به في نخبة عالمنا العربي الغرور، حين يقف أحدهم ويحدِّثك من فوق، حتى إنه في خلال تلك اللحظات وأنت تصغي إليه تراه يزداد طولاً، وأنت تزداد قصراً، حتى تصبح بحجم صرصور في نظره.

سمحت لي ظروف إقامتنا في فندق واحد أن نأكل "عيش وملح" معاً، ونتحدث في أمور وأجواء الأدب بشكل واسع، أعجبتني طريقته في التعامل مع ابني الذي كان رفيقي في كل أسفاري، فحدّثه عن قصته "روح الغابة"، ولا أذكر أنْ رسخ أحدهم في ذاكرة ابني مثل جبور الدويهي بشخصيته المميزة، وخفّة دمه، وحديثه الماتع، وذكرياتنا المشتركة مع أطرف النادلين في العالم.

بعد عشائنا الأول معاً، جاء النّادل ونظر إلى صحن الدويهي متسائلاً: سيدي ألم يعجبك طبقك؟ فأكّد له جبور أن الأكل ممتاز، النادل لم يقتنع، نظر إليه مستنكراً وسأله بنبرة جادّة وكأنّه يحدث طفلاً: "لماذا لم تنه صحنك إذن؟ انتفض كاتبنا في مكانه مدهوشاً، وأجابه وهو على وشك أن ينفجر ضاحكاً: "الصحن كبير شوي"، النادل غير عابئ بجوابه أردف ناصحاً: "سيدي في عمرك يجب أن تأخذ صحن شوربة صغير، وليس قطعة فيليه كهذه".

كسر النّادل حاجز الرّهبة بيني وبين الدويهي، إذ أتممنا السهرة نتحدث عن طرافة النادلين في الجزائر وهي طرافة نادرة، لا نجد مثلها إلاّ في أدب الدويهي.

في رحيله أتذكر ليلة النادل الذي أضحكنا حتى البكاء، أتذكره ضاحكاً وأبكيه، وفي الحقيقة ما يبكيني هو خسارة رجل محترم جداً في عالم الأدب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد