: آخر تحديث

وسائل التواصل الاجتماعي والعولمة والمواطنة العالمية

20
21
22
مواضيع ذات صلة

انطوى عالم ما بعد الحداثة على ثقافة افتراضية فرضت انتصارها على العالم الحديث، وغدت ثقافة للبشرية.. حيث ساد ما يعرف بالإنسان الرقمي أو الافتراضي والذي تمثل في ظهور وسائل التواصل الاجتماعي social media.

ولكن هل وسائل التواصل الاجتماعي منصة إعلامية تسعى وراء الحقيقة أو الإثارة لمجرد الإثارة؟

فإذا كانت الصحافة العامة تسعى وراء الخبر لأن هذا هو واجبها المهني تجاه قرائها وهذا موقف ابتدائي صحيح بالمقاييس المهنية.. فهل لوسائل التواصل الاجتماعي هذا الواجب المهني تجاه متابعيها وجمهورها؟ فإن أي إنسان بغض النظر عن وضعه سياسيًا أو فقيهًا أو مفكرًا أو فنانًا أو رياضيًا أو أيا كان له حق في أن يعيش حياته الخاصة بعيدًا عن الفضول بعد أن يعطي الجمهور حقه من حياته العامة.

وهنا قد يبدو من الظلم أن تتبع وسائل التواصل ذلك الشخص، في كل حركاته وسكناته وتعرضه على الجمهور كتابًا مفتوحًا في جميع أحواله، فليس من شخص يطيق أن يكون دائماً على أحسن ما يريد الجمهور، فلا بد من سقطة هنا أو هفوة هناك.

والسؤال: هل لتلك الوسائل أن تغرد أو تنشر كل ما تضع يدها عليه من أخبار أو أسرار أو أقوال أو حديث مجالس؟ وهل على كل شخص أن يتحوط لنفسه؟

ففي الصحافة أو الإعلام بشكل عام يستطيع أن يقول للصحفي بأن هذا ليس للنشر، ثم يقول ما يشاء أن يقول، وعندها يتلزم الصحفي ويتقيد بعدم النشر، ولكن هذه القاعدة ليست واضحة في وسائل التواصل الاجتماعي.

فإذا كانت الصحافة العامة تراعي تقاليد المهنة والمثل والأعراف -وهذا لا شأن له بالحرية- وتلزم محرريها بالدقة وبالقاعدة الإعلامية العالمية بعدم نشر أي خبر غير رسمي ما لم يتفق مصدران على الأقل على صحته لأن ثقة القارئ بالصحافة العامة مشتقة من ثقته بالمؤسسة الإعلامية.

ولكن وسائل التواصل الاجتماعي تضرب بالتقاليد والأعراف الإعلامية عرض الحائط وتجرؤ على أن تنشر بأسماء مستعارة ما لا تستطيع قوله في العلن وهذا يهدد بنية المجتمع.

وهذا ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية في الستينات عندما ثارت الصحافة الطلابية -والمشابهة في فكرتها وتوجهها وحماستها -وسائل التواصل- في وجه المجتمع الأميركي حتى زلزلت أركانه.

فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم وسيلة الاتصال الرئيسية بين الناس ولذلك يفترض فيها أن تعكس ما يدور في المجتمع بأمانة ونزاهة ودقة حتى يستطيع أفراد المجتمع أن يستعينوا بالمعلومات الصحيحة وأن يصعدوا بها من مجرد وسيلة اتصال ليجعل منها ضمير المجتمع.. ففي ثقافتنا تعتبر الكلمة أمانة ثقيلة إلا أن بعض هذا الغثاء الذي تنشره وسائل التواصل الاجتماعي يضلل المتابع البسيط وينفر المتابع الواعي.

يقول الخبراء التقنيون: إن وسائل التواصل الاجتماعي تسيطر على نحو 71 % من السوق الإعلامية والاتصالية عالميًا، ولذلك باتت وسائل التواصل الاجتماعي قوة مجتمعية ضاغطة لمصلحة مخططي السياسات وصانعي القرارات في العالم، ولذلك أيضًا أحدثت تغييرًا جذريًا في الإستراتيجيات، وقد أكد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على التأثير في مختلف القضايا وذلك عندما قال نحن أمة من الفيسبوك وجوجل، وكان يقصد في خطابه المجتمع الأميركي الذي تقوم حياته على معطيات التقنية.

يقول د. جمال السويدي مؤلف كتاب "وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية": لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي قد ضاعفت بشكل هائل أصحاب الرأي العام في تشكيل القناعات وتوجيه الرأي العام وهيمنتهم على مختلف القضايا والموضوعات رغم تفاوت مستوى ثقافتهم ووعيهم ودرجاتهم العلمية مما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير ذلك على الخطاب الثقافي أو النمط الإعلامي.

وهذا يدفعنا إلى استجلاء مفهوم المجتمع الافتراضي وتبين الأثر الذي يحدثه، إذ إن أهم مقتضيات الفكر جلاء المفاهيم ومعرفة الصواب والخطأ، فإذا نظرنا حولنا في المجتمعات الإنسانية وجدنا تبدلًا متلاحقًا في العلاقات الاجتماعية وقواعد السلوك ومقاييس الأخلاق، ولذلك فإن علينا إخضاع المبادئ والغايات إلى امتحان مستمر فليست الحياة تقوم على العالم الافتراضي فلا يمكن لعامل واحد أن يسيطر أو يتحكم في المجتمعات الإنسانية.

فالطفرات المتلاحقة التي تشهدها وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها إحدى نتائج العولمة تعد طفرة كبرى بجميع المقاييس حيث أنتجت وسائل التواصل الاجتماعي ديناميكية جديدة في التعاطي مع الأفكار وقضايا الشأن العام، فالثابت أن هذه الوسائل (فيسبوك، يوتيوب، تويتر، جوجل بلس والهواتف الذكية) ستمضي في مسارها وتكريس موقعها الذي شغلته باعتبارها السلطة الخامسة.

فالمستقبل القريب سوف يشهد تطورات نوعية فارقة سواء على صعيد التواصل الاجتماعي أو على التأثيرات، فالقوة المعلوماتية سوف تتضاعف في عام 2026م ثمانية آلاف ضعف، وإذا كانت التوقعات تشير إلى أن عدد سكان العالم سيصل عام 2026م إلى 8 مليارات فإنه من المتوقع أن يكون من بين هؤلاء ثلاثة مليارات يستخدمون شبكة الإنترنت، فعند ذلك سنكون بصدد مليارات من الشخصيات ذات الهويات الافتراضية وسوف يفتح الباب أمام مسألة المواطنة العالمية والتي سوف تستمد شرعيتها من العولمة والدوران في فلك عالمي لا منتهى له عن طريق بناء مشتركات المجموعات في موقع ما من العالم بدلًا أن تكون تلك المشتركات مع أناس في منزلك أو مدرستك أو عملك.

ولذلك سوف تكون وسائل التواصل الاجتماعي لاعبًا رئيسيًا في التحولات المستقبلية في المجالات كافة سواء ظلت الوسائل بأنماطها التقنية الحالية أو ظهرت وسائل جديدة على شبكة الإنترنت، ففي جميع الأحوال يمكن الجزم أن هذه الوسائل قد نقلت كثيرًا من المجتمعات بالفعل نقلة عابرة للخيال والذي يكاد يشمل العالم بأكمله، لذا فإننا نرى أن وسائل التواصل الاجتماعي تستحق من الاهتمام والدراسة والتحليل ما يناسب أهميتها وحجم تأثيراتها الإستراتيجية الراهنة والمستقبلية، وأن نركن إلى قضية التلقي الناقد، وذلك عندما نتداخل مع هذا العالم الافتراضي، ذلك أن معارف وأفكار اليوم تقوم على أساس نظري وفكري يدخل في مجال الأيديولوجية والنظرة الكونية، لذلك قد نقع في تبني فكر مختلف عن فكرنا.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد