: آخر تحديث

عندما أصبح الجوع الاسم والشهرة

11
13
13
مواضيع ذات صلة


د. نسيم الخوري


كيف يجرؤ زعيم سياسي أو مصرفي أو رجل أعمال في لبنان، في التحديق عبر شوارع بيروت ولبنان بأكوام النساء المتهالكات في الزوايا وفوق الأرصفة وفوق أيديهن أشباه أطفال، أعينهم وأفواههم زرقاء غائرة من جرّاء الجوع؟
لا تُصدّقوا على الإطلاق ما ترونه وتسمعونه عبر الشاشات عن لبنان البذخ والتخمة. نحن شعب جائع داخل مربع مُقفل، تتشابك حول أعناقنا الجدران الفولاذية الاقتصادية والمالية والسياسية والإعلامية.


 تتخالط الطوابير المُتعددة حول براميل القمامة. يقضون أيامهم بحثاً عن ثوبٍ مهلهل أو قطعة «بيتزا» في علبة متعفّنة، وتتلعثم الألسنة والحبر وهي تنقل صور الجوعى في لبنان الذي سمّيته اللا مكان. من ينتشل الناس قبل أن تصرخ: «عجبت لمن يجوع كيف لا يخرج الى الشارع شاهراً سيفه في وجه الناس».

 نشر الدكتور علي فاعور «أن الدراسة التي أجرتها الإسكوا حول نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان تصل إلى 82% وهي لم تشمل المخيمات والعشوائيات؛ بل اقتصرت على أماكن سكن اللبنانيين. وإذا ما شملت هذه الأماكن فإن نسبة الفقر تتجاوز 90%، وهذا يعني أن ثلاثة ملايين و200 ألف لبناني صاروا في عداد المُعدمين من أصل 3860000 عدد اللبنانيين، وهذا ما حدا باليونيسيف إلى تصنيف لبنان واحداً من 20 بؤرة للجوع في العالم تماماً مثل بلدان القرن الإفريقي وأفغانستان والصومال ونيجيريا...».

 إلى أين يقودنا هذا الواقع الأسود المُغطّى بمنديل شفّافٍ يخفي الحقائق على الأرض؟

1- يقودني، متفلسفاً بالأكاديمية، إلى ابن خلدون، أي إلى القرن الرابع عشر عندما ربط الرجل زهو الحضارة بخوفه من عدد السكان والنمو الديموغرافي الهائل. لقد جذبتني الفكرة نحو زمن جميل من الرخاء والعطاء، وقد شغلت منصب نائب رئيس جمعية تنظيم الأسرة التابعة للأمم المتّحدة في لبنان... لكنّه الجوع...الثقيل في لبنان يتمّ تسخيفه بكيديات المطاعم الفاخرة والمقاصف العامرة والعربات الرائعة و«الدولار فريش» الذي تجاوز اليوم المئة ألف ليرة للدولار الواحد بما لا يمكّننا من تغطية الواقع والوقائع التي تجاوزت كل المساحيق، وتقود كلّ صباح إلى السرقات والقتل والارتماء في عرض البحر من صور إلى طرابلس في الشمال.

2- يقودني عاجزاً نحو نظرية روبرت مالتوس ( 1766-1834) السياسي الإنجليزي والاقتصادي المشهور بنظرياته المؤثّرة في التكاثر السكاني والقائل إنّ عدد السكان يتجاوز بكثير حجم المواد الغذائية التي يمكن أن تنتجها البشرية، لأنّ التناسل بات أقوى من قدرات الأرض على الخيرات، ولهذا السبب يرى المروّجون لنظريته وأنا منهم وفيهم، أن البشرية استهلكت 5 ملايين سنة، لكي يصل عددها إلى ملياري نسمة، وإلى نصف قرن كي تقفز إلى أربعة مليارات، ثم إلى 22 سنة فقط لكي تُصبح 7 مليارات. ويرى أننا إذ نحاول إطعام العدد المتزايد من أبناء البشر، فإننا نعرّض بذلك للخطر قدرة الأرض في المحافظة على الحياة على سطحها.

3- ويقودني إلى سؤال: أيعقل أن يكون راتب الأستاذ الجامعي في الجامعة اللبنانية 15 مليون ليرة لبنانية شهرياً؛ أي 147 دولاراً بعد 40 سنة محاضرات وهو الحامل مثلاً لشهادتي دكتوراه وعشرات المؤلفات والدراسات والأبحاث وخرّج مئات الطلاب من حاملي الماستر والدكتوراه ولا تغطية صحيّة توفّرها له دولته سوى المرض والقبر؟

4- يمكنني أكاديميّاً وأدبياً، تلطيف هذه الصور والمقاطع أكثر، وأقود حبري للقول، إن عدد الجوعى في العالم يتجاوز ال1470000 من الأفواه المفتوحة، لالتقاط ما يبقى على حافة الحياة، وفقاً لتقرير الأمم المتّحدة للعام 2022 أو وفقاً لما نقل عن «القمة العالمية للغذاء» في روما في 2009 والتي يمكنني تسميتها ب«قمة الجائعين»، لأن 8 ملايين طفل يموتون سنوياً بسبب الجوع. هذا يعني موت طفل جائع كلّ 5 ثوان.

5 - يمكنني التفكير بالعطشى والجوعى فوق الأراضي التركية والسورية التي اهتزّت وكأنها تطفو مجدداً من جنون الماء، ويمكنني التذكير إذاً بأسطورة إله بعل الذي خصّب الأرض بالماء لكنّه بقي عطِشاً اسمه العطش لشدّة عطائه.

6- ويمكنني أخيراً، عصر كتب التاريخ منذ القرون الوسطى وتقديم الأرقام الدقيقة حول ملايين الملايين الذين ماتوا لا بسبب الحروب؛ بل بسبب تداعياتها أي بسبب الفاقة والجوع والأوبئة والأمراض وموت العدالة في عيون الحكام؟

 ماذا يعني هذا الكلام عندما يصبح الجوع الاسم والشهرة؟ يعني صفراً مكعّباً أضمّه إلى أصفار لا تسمع صرخة رضيع جائع يزحف عارياً نحو الموت.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد