: آخر تحديث

عراق الأخوة الأعداء أو الأخوة عراقازوف

53
56
44
مواضيع ذات صلة

في أحد الأيام، وحينما كنت كعادتي مشغولاً بالهَم العراقي محاولاً فك طلاسمه وتفكيك شفرته ليبدو أكثر وضوحاً لمن لا تزال صورته لديهم مشوشة، سواء بسبب تنشأة الأهل والمجتمع لهم على أفكار باتت بالنسبة لهم قناعات راسخة ومقدسة، رغم أنها ليست بالضرورة صائبة، أو بسبب بروباغندا الأحزاب الحالية التي تسعى لخلط الأوراق عليهم، تذكرت "رواية الأخوة كرامازوف" للأديب العالمي دستوفسكي التي قرأتها خلال أيام المراهقة، وخطر لي ترابط رمزي قد نفهم من خلاله ما حدث في العراق خلال السنوات الأخيرة، أو حتى قبلها، بطريقة مبسطة حينما نسقطه على الرواية. هذه الرواية أُنتِجت سينمائياً بأكثر من فيلم. أولها وأشهرها الفيلم الأجنبي الذي أُنتِج عام 1958 بنفس الإسم، وقامت ببطولته نخبة من أساطين هوليوود، أبرزهم يول براينر، ماريا شيل ووليم شاتنر. والفيلم العربي"الأخوة الأعداء" الذي أُنتِج عام 1974، وقامت ببطولته نخبة مِن عمالقة السينما العربية، أبرزهم يحيى شاهين، نور الشريف، نادية لطفي، حسين فهمي، عماد حمدي، أحمد مظهر، صلاح ذو الفقار، شويكار، ميرفت أمين ومحي إسماعيل وآخرين. طبعاً التشبيه هنا رمزي، لأن العدد الأساسي للأخوة في الرواية والفيلم ثلاثة، وهُم كذلك كمُكونات أساسية في الحالة العراقية، ومن باب أنه كان هنالك سوء فَهم بين بعضهم وبين الأب، الذي فَتَح عليهم موته أبواب جهنم، وعجزوا، ربما لخلل في نشأتهم، إغلاقها أو إخماد نارها فأحرقتهم جميعاً في النهاية، كما حصل مع مكونات الحالة العراقية بعد 1958 تدريجياً، وبعد 2003 تماماً، أما تفاصيل الأحداث وطبيعة الصراعات فهي بالتأكيد مختلفة بين الرواية والأفلام التي إقتبست منها من جهة، وبين الحالة العراقية من جهة أخرى.

الحالة العراقية تشبه حالة أب كان لديه ثلاثة أولاد غير أشقاء من ثلاث نساء يعيشون جميعاً في بيت واحد، هو في هذه الحالة العراق. وحينما كان الأب على قيد الحياة حاول أن يبقيهم سوية، وكان يعتمد عليهم جميعاً، لكن طبعاً بنسب متفاوتة تتناسب مع طبيعة شخصياتهم وطُرُق تفكيرهم، لذا كان يعتمد على الأوسط ثم الأصغر ثم الأكبر. فالأوسط كان أكثرهم واقعية وبراغماتية وسَعياً للنجاح ويَعرف ما يريد، وقد نجح بالفعل في تحقيق الكثير مِمّا أهله ليكون الأكثر تأثيراً وحضوراً في المَشهَد العائلي. يليه الأصغر الذي كان أيضاً عَمَلياً، لكنه كان يحاول تحقيق ذاته في بيت كبير يرى فيه السَطوة لأخوَيه، لذا كان يسعى لإستقلاليته في بيت منفصل لوحده، محاولاً أن يُنشيء لنفسه عالماً خاصاً به بعيداً عن مشاكل أخويه وصراعاتهم، التي كان يرى نفسه غريباً عنها ولا تبدو لها نهاية. لكن في كل مَرّة كان الوالد يتدخل لإعادته الى البيت بالإقناع أو القوة أحياناً. أما الأكبر فكانت له أفكاره التي لم تكن تتوافق كثيراً مع أراء الباقين، ولم تلائم النظام الذي سار عليه البيت منذ تأسيسه، بل كانت تهدد بتصدعه، لكنه كان يُصِر عليها، بل ويسعى بين حين وآخر لفرضها وجعلها أسلوب حياة للجميع، وهو ما جعله منزوياً بعض الشي ومُتَرَقباً للأحداث، يتحين الفُرَص لتحقيق ما يَصبو إليه!

طبعاً لم يكن لهذا الوضع أن يستمر لفترة طويلة، وكان لا بد له أن ينفجر في يوم من الأيام، وبدأ هذا الأمر تدريجياً بتقدم الوالد في العمر، وفقدانه للسيطرة شيئاً فشيئاً على أسلوب تفكير وتصرفات أولاده الى حين وفاته، وقد بدأ هذا الأمر عملياً على أرض الواقع في العراق بسقوط النظام الملكي عام 1958، وبداية ضياع العراق بضياع مؤسساته الدستورية، وفقدانه لنخبه الوطنية الحكيمة بفعل بساطيل العسكر والمراهقة السياسية للأحزاب الثورجية الشمولية، وصولاً الى إسقاط نظام صدام عام 2003، حيث إنتهت آخر أشكال سيطرة الوالد على أولاده. فحينها وجد الأخ الكبير ضالته في السيطرة على البيت وفرض آراءه الغريبة على أخويه وباقي العائلة، بحجة أنه كبيرهم، رغم علم الجميع بأنه ليس مؤهلاً لإدارة الأمور، كونه مثقل بإشكالات تأريخية طائفية كان يفترض عليه تصفيتها، وبعقد نفسية مناطقية كان يفترض به معالجتها، قبل أن يقدم على هذه الخطوة، لكنه رَكَب رأسه وطالب بتصَدّر المشهد العائلي، وشجعه على ذلك جار سوء كان طامعاً في بيتهم وبستانه الذي يحوي ما لذ وطاب من الثمار، وكان يتحين الفرص للإستيلاء عليه، ولم يجد أفضل من هذه الفرصة المتمثلة بما يختلج في نفس إبن جاره الأكبر من عُقَد. وأمام إصرار الأخير وممارسته لمختلف أشكال  الترغيب والترهيب على أخويه، إنصاع له الأخ الأصغر بعد وَعدِه له بأن يعطيه مساحة أكبر للخصوصية في البيت حينما يستتب له الأمر، وقد يعطيه يوماً حصته ليغادر حيثما يشاء. أما الأخ الأوسط فلم يستسلم أو يتقبل الأمر بسهولة، وحاول المقاومة بطرق أخذت أحياناً شكلاً عُنفياً غير مدروس، أظهره كجاني وأظهر أخاه الأكبر كضحية، وأمام محاولات التهدئة والإقناع من قبل الأقارب والأصدقاء، رضي الأخ الأوسط بما يشبه الهدنة، كي يظهر الأخ الأكبر من خلالها حسن نيته وتوضيح رؤيته لإدارة البيت.

ومرّت أيام وشهور وأعوام، وإذا بالحال في تدني، والخراب يضرب كل أركان البيت ويتآكل جدرانه كما تتأكلها الأرضة، فقد تحَوّل تحت إدارة الأخ الأكبر الى خَرِبة وأطلال تنعَق عليها البوم. كل هذا وهو يتفرج ويتصرف كأن شيئاً لم يكن، بل ويُمعِن في الضغط على أخويه وأبنائهم، وحتى بعض أبناءه هو، الذين أنقسموا الى فئتين، فئة كبيرة إشتراها هو والجار بالمال والوعود الكاذبة، وفئة صغيرة رفضت ذلك وواجهته، فطالها من ظلمه وبطشه مما طال أخويه وأبنائهم. فقد كشف عَن غِل دفين كان يكنه لأخيه الأوسط، وبدأ يسلبه أملاكه وحقوقه شيئاً فشيئاً بحجة أنه كان المُفَضّل لدى والدهم، ولم يكتفي بذلك، بل أتفق مع مجموعة بلطجية من أقارب أخيه الأوسط ليهاجموه ويسلبوه الجزء المخصص له من الدار، ثم ليأتي هو وأبناءه، الذين باتوا أشبه بمرتزقة يعملون لدى الجار ولا سلطة لوالدهم عليهم، لتمثيل دور المُخَلِّص مُحملاً أخاه الأوسط مِنيّة تخليصه من أقاربه الذين إستقدمهم هو لتمثيل هذه المسرحية، وبات يجبره على إعتباره وأبناءه ووصفهم بمُحرريه وحماة عرضه وتيجان رأسه! وبهذه الحجة فرض سيطرته على الجزء المخصص لأخيه من الدار، وبات يتحكم به كما يشاء، ومنع أبناء أخيه الذين لا يتفقون مع توجهاته من العودة اليه، وأغلق الجزء الذي كان يعيش فيه بوجوههم، مما إضطر غالبيتهم الى العيش في هيكل أحد البيوت المجاورة، وذهب بعضهم الى جزء البيت الخاص بعمهم الأصغر، والذي هو الآخر لم يَسلم من بطش أخيه الأكبر، فحينما فاض به الحال من أفعاله، وشعر بأنه يسعى لبيع البيت والبستان بتراب الفلوس الى جارهم، هَدّده بمغادرة البيت نهائياً الى غير رجعة، لأن العيش معه بات مستحيلاً، فإذا به يُقيم عليه الدنيا ويقعدها ويصوره لدى كل سكان البيت والأقارب بأنه سيء يريد تمزيق البيت، وقد صَدّقه الجهلة منهم وهم كثر، متناسين بأنه هو أول من سعى وعمل لتمزيق البيت وفق سياسة وخطة مدروسة بالإتفاق مع جار السوء، الذي بات يسرح ويمرح في البيت ويتحكم بأغلب سكانه كما يشاء، وكأنهم هم الضيوف وهو رب المنزل! في حين أن الجزء الخاص بالأخ الأصغر هو الوحيد الذي بقي على حاله شبيهاً بحال البيت أيام الوالد بأجواءه الحميمة، وكملتقى لجميع سكان البيت في ساعات الصفاء، وبعد أن عاد الأخ الأصغر وعدل عن فكرته لم يتركه الأخ الأكبر بحاله، بل أراد أن يكسر أنفه كما فعل مع أخيه الأوسط، فدَبّر بليل وِلية على حديقة صغيرة قريبة من غرفته، بمساعدة الجار وأبناءه، بالأضافة الى أبناءه المؤيدين له، بالتواطؤ مع أحد أبناء الأخ الأصغر. بعد كل هذا إستقر له الحال في البيت، بعد أن بات كل من فيه يمشي مُترنِّحاً كالسكران بفعل ضرباته التي من تحت الحزام، طبعاً بإستثناءه هو وقلة من أبناءه، وبمرور الزمن تحول البيت الى خرِبة ومقبرة لساكنيه. حتى جاء اليوم الذي قرر فيه بعض أبناء الأخ الأكبر أن ينتفضوا على والدهم، بعد أن إكتشفوا أن ما يفعله خطأ وليس من مصلحتهم ولا حتى مصلحته هو، بل من مصلحة الجار الذي يتلاعب بعقله، وبأنه قد ظلمهم وظلم أخويه الأوسط والأصغر وأكَل حقوقهم وحقوق أغلب أبنائه، بإستثناء من يسيرون في ركبه وينفذون أوامره وأوامر الجار.

طبعاً أساس المشكلة لم يكن في موت الوالد كما يتصور البعض، وبالتالي محاولة كل واحد من الأخوة تحقيق ذاته بطريقته الخاصة كما يبدو الأمر لأول وهلة، فهذا الأمر طبيعي في المجتمعات الناضجة المعتمدة على نفسها، والتي تسعى لتقوية شخصية الفرد فيها كجزء من تقوية المجتمع، لكنه أمر صعب ويؤدي عادة الى الفوضى في مجتمعاتنا الأبوية التي ما زالت قاصرة، لأنها تُرَبّي الفرد على أن يبقى قاصراً معتمداً على الأهل والعشيرة والدولة كسلطة أبوية، تقرر له كيف يجب أن يفكر، وماذا يجب أن يفعل. لذا حينما يحاول الفرد أن يتّخذ قراره، أو أن يتحرك بمفرده، يخيط ويخربط، لأنه غير مؤهل لذلك لا فكرياً ولا نفسياً. وهذا ما حدث مع الأخ العراقي الأكبر حينما بات في موقع المسؤولية الذي لم يتهيء له بنفسه، ولم تهيأه له ظروفه المجتمعية من أهل ومحيط مجتمعي، بل عَمّقَت فيه العُقد والأمراض المزمنة التي توارثتها جيلاً بعد جيل، لذلك فإن تحمله للمسؤولية كشف عن هذه العقد والأمراض، والتي إستفحلت في شخصيته هو تحديداً بسبب قناعاته الفكرية.

لذا لم يعد اليوم أمام أخويه الأوسط والأصغر، إذا أرادوا إنقاذ ما تبقى من البيت العراقي، سوى خيارين لا ثالث لهما، ولكن أحلاهما مُر، الأول هو أن يَحجروا على أخيهم الكبير الذي حول البيت الى زريبة، بعد أن ثبت بأنه غير سَوي، وفاقد للأهلية، وخطر على الآخرين وعلى نفسه وعلى أوﻻده، فحتى هُم لم يسلموا من جنون وهستيريا الموت والتدمير التي تمكنت من شخصيته. أما الخيار الثاني فهو أن يخرج الإثنان ويبنون لكل منهم مشتمل يعيشون فيه بسلام، ويتركون له الجمل بما حمل، وينقذوا ما تبقى من محتويات البيت وذكرياته التي سَلِمت من تخريب الأخ الأكبر، لتبقى شاهداً على البيت الذي دمّرَه ولم يحافظ عليه.

فالحياة يجب أن تستمر، وكما يقول المثل "الحي أبقى من الميت"، والإنسان أبقى من البنيان، حتى وإن كان معبداً أو كنيسة أو مسجداً، بالتالي ليس هنالك من منطق وضعي أو إلهي يفرض على الأخوين الأوسط والأصغر القبول بوضع يشبه الإنتحار، بل هو إنتحار فعلي على يد أخيهم، لمجرد الحفاظ على صورة البيت والعائلة كما هي في أذهان بعض أفرادها، الذين للأسف تُهِمّهم أن تبقى هذه الصورة بأذهانهم وأذهان الناس أكثر من إهتمامهم بمصلحة وحياة الأخوين الأوسط والأصغر وأبنائهم، ويطالبوهم أن يضحوا بهما لمجرد الحفاظ على هذه الصورة دون وازِع من ضمير، لأنه قد بات واضحاً لكل من لديه ذرة من عقل بأن أخاهم الأكبر يُضمِر لهم مع الجار شراً، ولن يهدأ له وللجار بال سوى بالقضاء على أخويه وكل أبنائهم حتى ينقطع نسلهم، لكي تخلوا الساحة لجاره وله وللمتواطئين معه من أبناءه ويمسخوا البيت ويلحقونه ببيت الجار ويصبحون فيه مجرد نزل لا قيمة لهم فيه ولا كرامة، ولا نفع لهم في العالم ولا دفع ولا إنتاج، لأنهم مسكونين بِوَهم إنتظار شخص سترسله لهم السماء لينهض بهم ويجعلهم أسياد الدنيا، وبسبب ذلك ضَحّوا وفَرّطوا بأحد أجمل البيوت في العالم وباعوه برُخص التراب. وإن كان هذا ما يريدونه ويسعون إليه فهم أحرار، لكن ليس من حقهم أن يجبروا أبناء عمومتهم عليه، وهو بالتأكيد ليس ما يريده ولا يقبله الأخ الأوسط والأصغر، فهم يرغبون بعيش كريم لهم ومستقبل زاهر لأبنائهم، لن يحققه لهم جار السوء الطماع، أو أخيهم الأكبر الذي بات مِحبَساً بأصغر أصابعه، ولا إنتظار البطل الخيالي المُخَلّص، بل سيتحقق بالعمل والجهد والمثابرة ومجاراة التطور والحضارة، ومن حقهم أن يسعوا الى تحقيق ذلك لوحدهم كل في مشتمله أو حتى ببناء بيت مشترك لهما بدون أخيهم الأكبر، وبعيداً عن هلوساته وخزعبلاته التي لا تبدو لها نهاية، بل وباتت تستفحل يوماً بعد آخر، ولن يلومهم إذا فعلوا ذلك، بعد كل ما جرى لهما من قبل أخيهم الأكبر، سوى عديم منطق وإنسانية!

 

مصطفى القرة داغي

[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في